يمكن ملاحظة أن نهج رامافوسا التوافقي، قد نجح في خفض التوتر مع ترامب (أ ف ب)
محمد عبد الكريم أحمد
الجمعة 23 أيار 2025
اختزل مشهد واحد من لقاء القمّة الذي جمع الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والجنوب أفريقي سيريل رامافوسا، في واشنطن، أول أمس، طبيعة العلاقات بين البلدَين، كاشفاً على نحو دقيق للغاية خلفية الزعيمَين السياسية. وهكذا، حين بادر ترامب إلى نصب فخّ لضيفه، بعدما سلّمه ملفاً فيه قصص إعلامية تمّ جمعها على عجل، تُبيِّن أن «آلافاً من البيض واجهوا إبادة» في جنوب أفريقيا، ردّ عليه رامافوسا بسخرية لافتة: «ليست لديّ طائرة أهديها لك».
ويتعامل الرئيس الأميركي مع السياسة، بكلّ أدواتها، باعتبارها وسيلةً لتحقيق مكاسب مالية آنية وبعيدة، علماً أن رامافوسا نفسه، ورحلة صعوده السياسي، كانا نتاج عملية رأسمالية مشابهة، في جنوب أفريقيا. فقد جنح زميل القائد الشاب الأيقوني، ستيف بيكو، الذي قُتل غدراً في أيلول 1972، إلى التبرؤ سريعاً من أفكاره الثورية الراديكالية، لينضمّ إلى دوائر العمل النقابي «المدجّن»، مؤسِّساً «الاتحاد القومي لعمال المناجم» (الأفارقة) عام 1982، فترقّى في المناصب النقابية المهمّة على المستوى الوطني، ما أهّله للعب دور قيادي في المرحلة الانتقالية في جنوب أفريقيا (1989-1993)، ثمّ تزوج بعدها (1996) الطبيبة تشيبو موتسيبي، ابنة الملياردير الجنوب أفريقي أوجستين موتسيبي، الذي كان يمتلك (وأسرته حالياً) امتيازات تعدينية ضخمة في البلاد.
وتشي هذه الخلفية، أي زواج السلطة والمال، بأن رامافوسا كان مستعدّاً تماماً لدخول حلبة لقاء ترامب بعينين مفتوحتين وذهن متحفّز، وبعقلية التوافق على حلول وسط، لا تعبّر بالضرورة عن مصلحة الشعب الجنوب أفريقي وآماله.
أوراق رامافوسا في البيت الأبيض: تنازلات جادّة؟
بدا رامافوسا متماسكاً للغاية في مواجهة ترامب وآلته الاستفزازية التي سبقت اللقاء الرسمي بينهما بتوجيه اتهامات لحكومته، وإجباره على مشاهدة مادّة «وثائقية» أشرفت على إعداها ناتالي هارب، مساعدة ترامب المعروفة بمرافقته على مدار اليوم لتزويده بالأخبار والتقارير التي تتناول أداءه. وعلى رغم ما مثّلته تلك الحركة المسرحية من إهانة لرئيس دولة، لكنّ رامافوسا بادر إلى توضيح موقف بلاده، مؤكداً أن أولويته هي تحسين العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة، والتشاور في شأن زيادة «الرسوم الجمركية» التي تمّ فرضها على الصادرات الجنوب أفريقية، وأُجِّل تنفيذها حتى نهاية تموز المقبل.
وردّ الرئيس الجنوب أفريقي على «الوثائقي» الأميركي، الذي اتّضح أن مقاطع منه مصوّرة في أعوام سابقة، بالقول إن بلاده تشهد «مستويات مرتفعة من الجريمة»، وإن «أغلب الضحايا هم من السود»، قبل أن يلفت انتباه مضيفه إلى الزعيم الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا، وكونه صانعاً للسلام. مع ذلك، لم تظهر أيّ دلائل على تأثّر ترامب، وصحّة ما رآه مراقبون من أن مسألة توظيف «الإبادة» ما هي إلا أداة سياسية متهافتة في يد الرئيس الأميركي، للضغط على بريتوريا. وبعد اللقاء بينهما، عبّر رامافوسا عن تفاؤله إزاء مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة، واصفاً الاجتماع بأنه مثّل «نجاحاً كبيراً» في ملفَّي التجارة، ولجهة اتهامات واشنطن لبريتوريا بالاستيلاء على الأراضي، والإبادة.
بدا رامافوسا متماسكاً للغاية في مواجهة ترامب وآلته الاستفزازية
ويُظهر التعليق نجاح رامافوسا في التوصّل إلى تفاهمات لحفظ الشراكة الإستراتيجية، وخفض التصعيد، في ظلّ مطالبة بريتوريا لواشنطن باستمرار الدعم الأميركي في مجالات التجارة والأمن والدبلوماسية العالمية. ويمكن ملاحظة أن نهج رامافوسا التوافقي، والذي يميل إلى تقديم تنازلات أولية تفادياً لمواصلة الولايات المتحدة سياساتها العدوانية التي تمسّ عصب الاقتصاد الجنوب أفريقي، قد نجح في خفض التوتر مع ترامب، الذي قد يحضر قمة «مجموعة العشرين» المقرَّرة في جوهانسبرغ، نهاية العام الجاري.
تفاهمات واقعية: «بزنس تو بزنس»
أكّد مسؤولون جنوب أفارقة، قبل القمّة، أن المحادثات لن تركّز على مسألة الإبادة، والتي تمّ دحضها بالفعل، بالإشارة إلى أن المقاطع المصوّرة التي عرضها ترامب على رامافوسا، قديمة. وبالنظر إلى تجاوز الرئيس الجنوب أفريقي اللقاء الصعب، الذي كان مواطنوه يتوجّسون من تداعياته، أو تكرار ما حدث مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في شباط الماضي، فإن الأمور تبدو واضحة الآن: مزيد من الجهد الجنوب أفريقي لإقناع واشنطن بوقف إجراءاتها العقابية (الرسوم الجمركية وما يتعلق بتجميد قانون الفرصة والنمو الأفريقي AGOA، وهي أكبر دول أفريقيا جنوب الصحراء استفادة منه)، والعمل على تأمين اتفاق تجاري جديد بين البلدَين، ولا سيما أن الولايات المتحدة هي ثاني أكبر شركاء جنوب أفريقيا التجاريين.
وبحسب مصادر جنوب أفريقية (نيويورك تايمز، 22 أيار)، فإن «بريتوريا في أمسّ الحاجة إلى واشنطن، وأكثر من أيّ وقت مضى»، فيما تدرك «الإدارة الأميركية ذلك، في ظلّ الارتفاع غير المسبوق في معدلات البطالة والتفاوت الاجتماعي والطبقي، وتأثّر النمو الاقتصادي إجمالاً بالعقوبات الأميركية».
وأصبح بحكم الواقع، توجّه رامافوسا إلى تلبية أغلب مطالب ترامب، من مثل السماح لشركة «ستارلينك» المملوكة لإيلون ماسك بالعمل في جنوب أفريقيا بشروط تفضيلية (من دون تطبيق القوانين المفترضة في هذا الخصوص بفرض نسبة من المكوّن الاستثماري المحلي)، وإبطاء تطبيق قوانين نزع الأراضي لمصلحة الملكية العامة (بحقّ المزارعين البيض بحكم امتلاكهم أغلب الأراضي في البلاد)، ومنح الشركات الأميركية التعدينية والطاقوية الكبرى امتيازات مهمّة، كما سبق أن تعهّد رامافوسا قبل زيارته إلى واشنطن.
دعوى بريتوريا ضدّ إسرائيل: ورقة أخيرة؟
تحظى الدعوى التي رفعتها بريتوريا ضدّ إسرائيل أمام «محكمة العدل الدولية» لإدانتها بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، بدعم كبير من قطاعات شعبية واسعة في جنوب أفريقيا؛ إذ أكسبت الدعوة، بريتوريا مصداقية كبيرة على مستوى السياسة الدولية، في ظلّ العنف المفرط الذي تستخدمه إسرائيل، بدعم أميركي مفتوح.
لكنّ الزيارة الأخيرة ربّما تؤشّر إلى تراجع في هذا المسار؛ إذ وبعد تصريحات مهمّة لمقرّبين من رامافوسا بأنه سيثير مسألة التناقض الأميركي في توجيه تهمة الإبادة إلى بلاده و»غضّ النظر عن تلك التي ترتكبها إسرائيل في غزة»، لم تتضمّن الزيارة أيّ إشارة إلى مثل هذه التعليقات. وربّما تكون ورقة دعوى الإبادة تلك، آخر أوراق رامافوسا، المعروف ببراغماتيته البالغة، في مواجهة الضغوط الأميركية الراهنة، أو ما قد يستجدّ في ما تبقّى من فترة إدارة ترامب.